کد مطلب:309802 شنبه 1 فروردين 1394 آمار بازدید:241

القسمت 39


هوت الشمس.. اشتعلت حمرتها فی الاُفق كجراح الشهداء... و شیئاً فشیئا زحفت كتائب المساء و لملمت الشمس خیوطها و رحلت بعیداً.. و ظهرت نجیمات تومض بأمل و فاطمة مشغولة دبّت فی جسدها عروق الحیاة.. قالت لاسماء بسكینة:

- اسكبی لی غسلاً.

فرحت اسماء و هی تری سیدّتها تقبل علی الحیاة تخطو نحو العافیة.

اغتسلت فاطمة... تطهّرت من أدران الأرض وارتدت ثیاباً جدداً.. و تعطّرت بكافور كان جبریل قد أهداه إلی أبیها...

قالت فاطمة وقد شاعت ابتسامة فی وجهها.

-افرشی لی وسط البیت...

فاطمة تستعد للرحیل... لم یكن فی البیت أحد سوی اسماء...


اسماء تراقب فتاة تشعّ نوراً كلما اشتدت ظلمة الأرض.

قالت فاطمة قبل أن ترقد:

- یا أسماء أنا استقبح ما یفعل بالمرأة بعد الموت یطرح علیها ثوب فیصفها للناظر... ألا تصنعین لی شیئاً یسترنی.

أجابت اسماء تطیب خاطرها:

- كنت بأرض الحبشة فرأیتهم یصنعون شیئاً فان أعجبك صنعت لك مثله.

هزّت فاطمة رأسها موافقة.. و راحت تراقب اسماء و قد تدفّقت ینابیع الأمل فی قلبها الكسیر.

أحضرت السماء سریراً فأكبّته علی وجهه ثم جاءت بجرید النخل و أوصلت بین قوائمه و شدّتها بحبال من اللیف... ثم ألقت علیه غطاءً.

بان الرضا فی وجه حوریة الأرض وابتسمت:

- نعم اصنعی لی مثله.. ما أجمل هذا یا اسماء... استرینی سترك اللَّه.

تمدّدت فاطمة فی فراشها ثم وضعت یدها تحت خدّها.. أغمضت عینیها ونامت... و كانت اسماء قد سمعتها تتمتم بصوت ملائكی:

- السلام علی جبریل. الهی فی رضوانك و جوارك ودارك دار السلام.


فاحت فی الفضاء رائحة الجنّة.. كانت اسماء تنظر إلی وجه ملائكی لسیّدة ودّعت الأرض فی عنفوان الشباب زهرة ذابلة فی قلب الربیع.. حمامة بیضاء كسیرة الجناح.. حوریّة شهیدة.

وجاء علیّ وقد بدا مكسور الظهر كما لو انّه یحمل جبالاً من الحزن و بید مرتعشة ناولته اسماء رقعة كانت فاطمة قد كتبتها قبل أن تغفو:

تجمعت الدموع فی عینیّ علیّ كغیوم ممطرة و غرقت الكلمات كحمائم تتقاذفها الأمواج.

- بسم اللَّه الرحمن الرحیم.. هذا ما أوصت به فاطمة بنت رسول اللَّه صلی اللَّه علیه و آله.. وهی تشهد أن لا إله إلّا اللَّه وأن محمداً عبده و رسوله.. و ان الجنّة حقّ والنار حقّ و ان الساعة آتیة لا ریب فیها و ان اللَّه یبعث مَن فی القبور...

یا علیّ أنا فاطمة بنت محمّد زوجنی اللَّه منك لأكون لك فی الدنیا و الآخرة..

حنطنی و غسلنی وكفّنی وصلِّ علیّ وادفنّی باللیل و لا تُعلم أحداً، و أستودعك اللَّه إلی یوم القیامة.

وقف علیّ مذهولاً، كانت فاطمة سكناً.. ملاذاً و كانت عزاءه الوحید.. وهاهی تودّعه.. تتركه وحیداً فی مهب اعصار فیه نار.


وقف علیّ ینوء بجبال الحزن بركام الغیوم.. ولقد توقف القلب الذی كان یتدفق حبّاً وانطوت صفحة كانت مشرقة وانطفأ شعاع كان یضی ء طریقه فی الحیاة...

وانكسر «ذوالفقار»... و تمزّقت أوتار الفرح.. الظلام یغمر الأرض و النجوم تشتدّ بریقاً كعیون تتطلّع إلی كوكب تهشم فوق الأرض.

وقف التاریخ حائراً، وقد اشتدّت ظلمة اللیل والحزن یجوس المدینة كغیمة تبكی بصمت، وعواء ذئاب بعیدة تنذر برحیل السلام.

هاهی الحوریة تترك الأرض لأهل الأرض و تعود إلی السماء.

وجاء أهل المدینة یوارونها الثری فقال لهم أبوذر:

- انصرفوا فقد أُخّر إخراجها.

انصرف الناس فیما ظلّ التاریخ حائراً یترقّب.

نامت المدینة.. اغمضت اجفاناً مثقلة بالحزن و الدموع... بدت یثرب تلك اللیلة راهبة تبكی بصمت.